تفسير سورة العصر

فتاوى نور على الدرب ( العثيمين ) ، الجزء : 5 ، الصفحة : 2 عدد الزيارات: 88401 طباعة المقال أرسل لصديق

ما تفسير قوله تعالى (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)؟
 
فأجاب رحمه الله تعالى: تفسيرها أن الله عز وجل يقسم بالعصر الذي هو الدهر لأن الدهر زمن الحوادث والوقائع المختلفة ومن ثم أقسم الله به أقسم على أن الإنسان في خسر والإنسان هنا يراد به الجنس فكل إنسان فإنه في خسر لا يستفيد من حياته شيئاً ولا من عصره شيئاً إلا من جمعوا هذه الأوصاف الأربعة (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (آمَنُوا) أي صدقوا بما يجب التصديق به مع القبول والإذعان فالإيمان الشرعي ليس هو مجرد تصديق بل هو تصديق خاص مستلزم للقبول والإذعان (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني عملوا الأعمال الصالحة والأعمال الصالحة ما استجمع فيها شرطان الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اختل أحد الشرطين لم تكن من الأعمال الصالحة لو أن الإنسان عمل عملاًَ موافقاً للسنة تماماً في ظاهره لكنه لم ينوِ بذلك وجه الله بل عمل ذلك رياء وسمعة فإن عمله لا يقبل ولا يسمى صالحاً ففي الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ومن أخلص لله عز وجل ولم يبتغ سوى وجه الله لكنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم يكون بأمرين إما بعدم فعل ما يشرع فعله مما يكون فواته مبطلاً للعبادة وإما بابتداع شيء في دين الله لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم مثال الأول لو أن رجلاً صلى الظهر ولكنه تعمد ترك التشهد الأول فإننا نقول إن هذا العمل باطل لأنه لم يتبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم حيث ترك التشهد الأول عن عمد وكذلك لو صلى الظهر وترك سجدة من السجدات أو ركوعاً من الركوعات فإنه لا يكون عمله صحيحاً لأنه لم يكن متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولو ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو أحدث تسبيحات أو تهليلات أو تكبيرات أو تحميدات على وجه معين لم تأت به الشريعة أو أحدث صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم على وجه معين لم تأت به الشريعة كان عمله غير صالح ولا مقبول لأنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في عمله والعبادة لا تتحقق فيها المتابعة إلا إذا كانت موافقة للشرع في سببها وجنسها وقدرها وكيفيتها وزمانها ومكانها فإن اجتمعت في العبادة هذه الأوصاف أو إذا تحققت الموافقة للشريعة في هذه الأمور الستة تحققت المتابعة وإن اختل واحد منها لم تتحقق المتابعة إذاً فمعنى قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي عملوا الأعمال الصالحة التي تحقق فيها شرطان وهما الإخلاص لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم الأمر الثالث (وتواصوا بالحق) أي صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق والحق هو ضد الباطل فكل ما خالف الشرع فهو باطل وكل ما وافق الشرع فهو حق والحق هنا يشمل التواصي بفعل المعروف والتواصي بترك المنكر أي أن الحق فعل المعروف وترك المنكر فيتواصون بفعل المعروف وبترك المنكرات (وتواصوا بالصبر) الصبر هو حبس النفس وتحميلها وهو أن كل إنسان يعمل أو يدعو إلى الله عز وجل فلا بد أن يواجه شيئاً قد يثني عزمه فليصبر فهم يتواصون بالصبر يوصي بعضهم على أن يصبر على الإيمان وعلى العمل الصالح والتواصي بالحق وقد أمر الله تعالى عباده بالصبر في عدة مواضع من القرآن مثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ومثل قوله تعالى (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ومثل قوله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وذكر أهل العلم أن الصبر ينقسم ثلاثة أقسام صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على أقدار الله المؤلمة وأعلاها الأول ثم الثاني ثم الثالث فالصبر على طاعة الله هو حبس النفس على قبول أمر الله ورسوله وعلى تنفيذ أمر الله ورسوله وفيه أمران وهما حبس النفس على قبول ذلك ثم تنفيذه أما الصبر عن معصية الله فهو حبس النفس عن فعل المعصية وليس فيه إلا شيء واحد وهو حبس النفس عن المعصية ولهذا كان الأول أكمل منه أما الثالث فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة فإن الإنسان في هذه الدنيا بين الضراء والسراء وبين الخوف والأمن وبين الضيق والسعة وبين الفقر والغنى وبين الصحة والمرض فيحتاج إلى صبر على ذلك والصبر هذا هو أقل الأنواع شأنا لأن هذا الصبر لا يفعل الإنسان فيه المصبور عليه باختياره وإنما يقع عليه بغير إرادته فهو كما قال بعض السلف إما أن يصبر صبر الكرام وإما أن يسلوَ سلْو البهائم بخلاف القسمين الأولين فإن فيهما نوعاً من الاختيار إذ أن الإنسان لو شاء لكف عن الشيء ولو شاء لم يكف ولو شاء لفعل الشيء ولو شاء لم يفعله بخلاف أقدار الله عز وجل فإنها تأتي للإنسان وتصيبه بغير اختياره ولهذا كان هذا النوع أقل شأنا أو كان هذا القسم أقل شأنا من القسمين السابقين.